top of page

مقدمة:
 

إن الأزمة السياسية المتمكنة، والتي تصاعدت تياراتها في ظل النظام الحالي قد عمقت الآثار السالبة التي شملت مجمل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، بصورة لا يمكن مقارنتها بما كان عليه الحال في أي وقت مضى ـ من قبل وبعد الاستقلال ـ الذي تحقق في مطلع يناير عام 1956. قد أوصلت البلاد إلى حافة الإنهيار ولم يتبق لها إلا السقوط الشامل في مستنقع التشرزم والتفكك.

 لقد وضعت التجربة الاسلاموية ودولتها الشمولية، القائمة على نظرية الإسلام هو الحل، تلك النظرية التي أدخلت البلاد في مأزق تاريخي مفصلي. وأنتجت تيارات وأساليب من العنف الممنهج لم يعرف له الشعب السوداني مثيلا على مختلف حقب تعاقب أنظمة الحكم عليه. وهو عنف غطت مساحاته، كل أنحاء البلاد وتجاوز الأفراد إلى الجماعات والمناطق، فكانت نتائجه إزهاق أرواح كثيرة لا تحصى من الشعب السوداني، وهدد أمن المواطنين وأجبر عشرات الملايين منهم على النزوح والهجرة والتهجير واللجوء. وهكذا، إتسعت دائرة الهوامش وتعطلت حركة نماء وتقدم البلاد ووصلت تيارات النزوح والهجرة درجات قياسية مما جعل السودان واحدا من أكثر الدول الطاردة لمواطنيها. غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد إذ أن من أخطر ما أنتجت التجربة الإسلاموية الشمولية فقدان البلاد لجزء عزيز منها، وهو الجنوب، ووضعت البلاد كلها أمام خطر تمزق قد يصعب تداركه، كما وسعت مساحات الحروب والدمار، وأدخلت أساليب منافية لأبسط قواعد الإنسانية، تمثلت في أساليب التعذيب واغتصاب النساء والرجال وقتل الأطفال. لقد أنتجت تجربة الإسلامويين في الحكم القائمة على التمكين والكسب غير المشروع والفساد بمختلف أوجهه، الذي تجلى في العديد من مظاهره السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمثلت في إفساد الحياة السياسية وذلك بإدخال المالي السياسي لتفكيك الأحزاب وشرزمتها، والانهيار الاقتصادي الكامل، ومظاهر التفكك المجتمعي فأصبحت المناطقية والجهوية والقبلية والعنصرية قيم لها مؤسساتها.

وإن كانت بعض جذور الأزمة السودانية على إطلاقها تعود لأسباب متعددة، تواترت منذ الفترة الأستعمارية، ثمّ تطورت في مراحل ما بعد الاستقلال، إلا أن تجربة الجبهة الإسلامية القومية في الحكم قد أعطت كل ذلك أبعاداً جديدة ومدمرة لم يتعارف عليها أهل السودان. الأمر الذي أدى إلى طمس العديد من عناصر هوية الشعوب السودانية ومكوناتها الثرية والمتنوعة، والتي تعايشت وما زالت تتعايش في السودان، وغيرت من عناصر خصوصياتها التي ميزت تجربتها الإنسانية عن تلك التي شملت من جاورها في المحيطين العربي والإفريقي. لقد أصبح واضحاً أن السبب الرئيسي وراء كل ذلك، هو أن تيارات تلك الأزمة، قد تحولت من تجربة التعايش المتداخل للكيانات الإنسانية السودانية، إلي صراعات ثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية أكبر من أن تديرها عقلية وبرامج  الدولة المركزية، التي توارثتها النخب الحاكمة في تحالفاتها المدنية والعسكرية التي تولت مقاليد حكم البلاد منذ الاستقلال. ولكي نقف على مجمل تلك الأسباب لابد لنا أولاً من استعراض خطوات تكوين الدولة في السودان.

bottom of page