top of page

تاريخ تكوين الدولة السودانية:
 

* لقد تميزت تلك الرقعة الجغرافية التي صنعها التحالف السوداني على مدى العصور على نماذج متعددة للدولة التي قامت على أساسها الممالك السودانية النوبية المختلفة في نبته ومروي لتليها الممالك المسيحية المتمثلة في مملكة نوباتيا وعلوة وسوبا من بعد، لتبرز تجربة جديدة ساهمت في تشكيل شخصيتها المتميزة، التي كان لهجرة القبائل العربية وما تحمله من ثقافة إسلامية دورها الذي ساهمت به في تقوية أواصر القوى الاجتماعية التي كونت ممالك وسلطنات الفونج والفور وتقلي والمسبعات. فالدولة السودانية الحديثة لها ما يشابه وما يخالف غيرها من الدول العديدة التي أستعمرت من قبل. لقد خضع السودان لأكثر من نظام إستعماري واحد. تنوع في شكل ومضمون كل من تلك النظم. فقد تم وضع حدود السودان الجغرافية الحالية بواسطة المستعمر الأول، محمد على باشا، في العام 1821م، ثم توسعت بواسطة المستعمر الثاني عندما انضمت منطقة دار مساليت في أقصى غرب البلاد طوعاً للسودان في العام 1925م واكتمل رسم الحدود الجغرافية في العام 1932م عندما تمكنت الإدارة البريطانية في السودان أن تسيطر على قبائل الدينكا والنوير والتبوسا في الجنوب، فظلت الحدود الجغرافية المصطنعة والهشة، والتي لم يكن لأي من الممالك والسلطنات المذكورة آنفاً يد فيها، إلى أن انفصل الجزء الجنوبي من البلاد في 9 يوليو 2011م. كما لم يكن بالضرورة أن الحدود الجغرافية تلك تمثل الحدود التي تمثلها التجربة الإنسانية السودانية. لذلك تشكلت الدولة السودانية الحالية تاريخياً من عدة عناصر اثنية وعرقية متعددة. فكانت الدولة الأفريقية، ولا تزال، تتألّف من وحدات عرقية قد تبدو متمايزة ولكنها في الأصل تنتمي للتجربة الانسانية في تنوعها الثري.
 

* هذا ومن جهة أخرى وفي تطور مغاير فقد قاومت البلاد ومنذ اليوم الأول، الاحتلال الأجنبي ممثلاً في الغزو والحكم التركي المصري، والذي جاءت الثورة المهدية كتتويج للنضال المشترك للسودانيين من أجل استقلال بلادهم. غير أن من أهم نتائج حملات دولة محمد علي، أنها حولت بعض أجزاء وأجواء البلاد إلى مساحة يحكمها نظام مفتوح لصيد واسترقاق الإنسان السوداني، والبعض الآخر يتكون من فضاء واسع، يحكمه نظام مقفول أنهكته الضرائب ونهب الثروات. من هنا جاءت وتوطدت البناءات الأساسية للهامش الجغرافي والبشري ووضعت قوائم المركزية الصارمة.
 

* لقد جمعت الثورة المهدية السودانيين، شماليين وجنوبيين ومن الشرق والغرب والوسط وما حولها فتحولت بذلك من ثورة ذات توجه ديني محدود إلى ثورة تحررية وطنية كبرى. رغماً عن ذلك فإن أفق الدولة المهدية المحدود والقابض بالقوة العسكرية والشمولية القائمة على فكرة دينية ضيقة مما كان له الأثر العميق على مآلات وتطورات الأمور. وبذلك لم يتمكن الأمر في تطوره اللاحق من الانتقال بالدولة إلى مراق تلك الروح الوطنية، ومن ثم أدخلت البلاد في مرحلة استعمارية جديدة، أي في مرحلة استعمار داخلي. وبذلك كانت لنا التجربة الأولى لنموذج مزج الدين بالدولة وما تبعها من قهر وتسلط وعنف وإقصاء.
 

لقد بنى حكم الدولة الثنائي قواعده على تراث المركز والهوامش الموروث من الحكم التركي، وزاد عليه بأن كوًن دولة شمولية يحكمها العسكريون البريطانيون بقيادة ونجت، فالحكم الثنائي لم يستعمر البلاد وحده بل إستعمر الديانات المرعية من إسلام ومسيحية وإفريقية. وبذلك كانت لنا أول تجربة في مزج الشمولية بالدولة. هذا ومن واقع تطور الحكم فقد نمت قطاعات جديدة من خريجي المدارس النظامية صممت لخدمة الدولة الاستعمارية ومقاصد من أسسوا لها. هذا وقد اندمجت تلك الجماعات وترعرت في ظل نظام إداري عسكري شمولي في البداية، يقوم على القهر والاستغلال ونهب موارد وخيرات البلاد من مال ورجال ومعادن ثمينة، وشطر الوطن إلى هوامش متعددة أساسها مناطق مقفولة وأخرى مفتوحة ومركز.
 

* لم تكن الخطط الإدارية للاحتلال تساعد كثيراً في مشروع بناء الدولة في السودان وتطوره رغم استخدام دولة الاحتلال للنسيج الاجتماعي للإدارة الأهلية، التي استعان فيها برجال القبائل والطوائف لتعضيد مشروع الاحتلال، والذي استثمرت فيه جماعات المتعلمين والخريجون الذين استخدم بعضهم الاحتلال لإجهاض حركة اللواء الأبيض ١٩٢٤م بقيادة (علي عبد اللطيف ورفاقه)، التي شكلت محطة نضالية مهمة في تاريخنا الوطني الحديث، إذ أكدت على أن مشكلة السودان ليست قائمة على أساس شمال جنوب، أو دين أو عرق، وإنما أساسها تقاطع المصالح الوطنية مع مصالح الاحتلال، والقوى المرتبطة به التي سعت بكل ما أوتيت من قوة، وما حصلت عليه من دعم ظاهر وخفي، لتعطيل وتقويض مشروع بناء الدولة الوطنية القائم على أساس التعاقد الاجتماعي والديمقراطية والعدل والمساواة والاستنارة والتحديث.
 

ولصالح مشروع هدم الدولة وتقويض مفهومها القائم على حقوق المواطنة وحقوق الانسان، فقد كانت الدولة الاستعمارية الحاضن للثورة المضادة والتي تضافرت لها بعض طوائف الرأسمالية الطائفية المحافظة، ويد الدولة الاستعمارية الباطشة وقوانينها المعادية لحقوق الإنسان، ووجود الإدارات الأهلية المساعدة ليتم في المقابل خلق هامش عريض. ومما تقدم فإن القطاعات الحاكمة في السودان، ومنذ تاريخ الإستقلال في العام 1956م، وضعت منهجاً محكماً، ليس فقط كيف تُحكم البلاد، لكن أيضاً بمَن تحكم. ووفقاً لذلك تبنت سياسة إحتكار السلطة السياسية والإقتصادية في أيدي فصائل بعينها للتواصل بأشكال منتظمة لمشروع المستعمر في إقصاء سكان الأطراف من المشاركة الفعلية في السلطة السياسية، والإسهام الأصيل في الحياة الإجتماعية، والاستنفاع الحقيقي من ثروات البلاد الإقتصادية، وأحد الشواهد علي ذلك، الانقلابات العسكرية التي استأثرت بستة وأربعين عاماً من فترة الاستقلال الوطني، والتي كانت تخريباً للمشتركات الوطنية وهدماً لجسور التواصل التاريخي بين أبناء الوطن الواحد، حيث أفلحت في خدمة مخططات سلطات الاحتلال وقدمت لها المسوغات والذرائع لتحقيق أطماعها المشتركة بين النخب والاحتلال في تفتيت السودان على أسس دينية وعرقية.
 

* هذا ما أدى إلى أن تأتي الإنقاذ التي جمعت بين شموليات مزجت ما ترائ لها بأنه يمثل مزج الدين بالدولة ومزج الدولة بالشمولية. وبذلك فقد جمعت تلك التجربة الطويلة كل مشروع بناء الدولة على مفترق طرق، وبالتالي ظل السودان طوال الستين عاما الماضية دولة بحدود وحدود بلا دولة، وهذه هي المفارقة التي وضعت البلاد علي مفترق طرق، ودليلنا على ذلك هو انفصال جنوب السودان وتكوين دولته المستقلة كنتيجة حتمية لسياسات المركز التي قامت علي إقصاء الآخر وفرض الرؤية الأحادية في إدارة البلاد.

ولنا هنا أن نفرق بين المركز الرسمي الذي نمى من سياسات تسخير الدولة من أجل قطف ثمار وموارد البلاد، والمركز الشعبي الذي نمت في قلبه القضية الوطنية ومسعاها من أجل التحرر والحقوق، متمثلاً في ثورة 24، وقيام الأحزاب والنقابات والصحافة الحرة وثورتي أكتوبر وإبريل، كل ذلك تناغم ايجاباً مع كل الحركة النضالية التي دافع عن مشروعها الأجداد وروتها دماء الشهداء من الشمال والجنوب والشرق والغرب، ليصبح وطناً يسع تطلعات جميع أبنائه، أساسه الديمقراطية والحرية، إستمكالاً لمضامين الاستقلال الوطني التي أفرغته تجارب الحكم بشقيه العسكري والمدني طوال حقبة ما بعد الاستقلال وحتى الآن.
 

* تري الجبهة السودانية للتغيير أن من أهم أسباب الأزمة السياسية في بناء مشروع الدولة في السودان، انعدام مشروع ثقافة بناء دولة المواطنة والمؤسسات ذات النهج السياسي الواضح لإدارة دفة الحوار الوطني الساعي إلى بناء نظام الحكم عن طريق جهد المواطنين الفكري والسياسي من أجل بناء وطن يسعد فيه أهله ويزودون عن أمنه ونماءه وحريته. لقد سعت قوى الثورة المضادة بالتحالف مع القوى الظلامية لإجهاض المشروع الوطني منذ فجر الاستقلال أو قبل ذلك، وخير شاهد على وثيقتنا الأساسية هذه هو المشروع المشترك الذي قامت عليه الانقلابات العسكرية مجتمعة من عدم إحترام لإنسانية المواطن السوداني وحريته وحقه في الحياة الكريمة. وتتمثل في رأس قائمة هذا البرنامج الانقلاب العسكري الذي وقع في العام ١٩٨٩م والذي أدخل البلاد في نفق الحروب في كافة جهاتها الأربع، والتي ضاعفت من معدلات الفقر للحد الذي وصلت نسبته ٩٥ % من فئات الشعوب السودانية، مضافاً إليها مأساة دارفور التي تمثلت في أبرز ماسي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى وملايين من النازحين واللاجئين، أضف إلى ذلك مأساة جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق التي راح ضحيتها الآلاف من قتيل ومشرد ولاجيء ومنزح.
 

* باستعراضنا لماضي وحاضر مشروع الدولة في السودان، نصل إلى قناعة مفادها فشل كامل لتجارب الحكم الماضية، ولا سيما العسكرية منها بشكل خاص والمدنية بشكل عام، وذلك إما لاجهاضها للديمقراطية في الأولى أو لفشلها في الحفاظ على الديمقراطية في الثانية. ويتمثل ذلك الفشل في عجزها  عن إقرار دستور دائم وبناء مؤسسات قادرة على تحمل مسؤولياتها على النحو الأفضل، لاسيما أنها قد  سعت وبتخطيط ممنهج لإلغاء دور بناء مشروع الدولة السودانية الوطنية الحديثة التي تقوم على مقتضيات حقوق وواجبات المواطنة والحرية واحترام حق المواطن في أن يختلف وأن يختار وأن يدير حواره الوطني عبر مؤسساته وفق إرادته الحرة الحزبية والتشريعية والتنفيذية والقضائية والإعلامية.
 

* لقد استطاع المواطن السوداني في مراحل تاريخية بعينها أن يتقدم بمبادرته المبتكرة خارج أطر الدولة الساعية نحو تغيير المناخ العام للحوار الوطني ليتضمن التحرير الكامل من ربقة الاستبداد. لقد استطاع علي عبد اللطيف ورفاقه تحرير الخيال القومي من ربقة الاستعمار، وأكدوا على حق المخيلة الجماعية لأهل السودان في تصوير ماهية واختيار رؤاها لقيام أمة تقوم على أساس الحرية والمواطنة. هذا ومن جهة أخرى فقد أعطت الثورتان الشعبيتان في كل من أكتوبر ١٩٦٤م، وأبريل ١٩٨٥م المجال العام للسلطة في قيادة حركة التغيير. كما أن مؤتمر المائدة المستديرة وميثاق الدفاع عن الديمقراطية ومشروع "السودان الجديد" وفق رؤاه المتعددة خاصة تلك التي تقدم بها الدكتور جون قرنق قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان، وباركها المركز الشعبي في أول زيارة له للخرطوم بعد التوقيع على أتفاقية السلام. كل هذه ستظل من النماذج السودانية المتقدمة والملهمة والتي يمكن تطويرها في المستقبل الذي يمكن أن يقود فيه المجال العام إلى حركة التغيير الاجتماعي الذي نسعى إليه بكل عزم وإصرار.
 

* ورغم تحميلنا للجزء الأكبر من الفشل الذي صاحب بناء مشروع الدولة في السودان بعد الاستقلال للنظم العسكرية وبخاصة نظام انقلاب حكم الإنقاذ الجاثم على صدر هذه الشعوب، إلا إننا لا نجهل تقصير وتفريط الحكومات الديمقراطية في تحمل مسؤولياتها، بممارساتها التي اتسمت بالمكايدات والمزايدات والتآمر على بعضها البعض، وانشغالها بقضاياها الخاصة بدلاً عن الاهتمام بقضايا الوطن والشعوب الأساسية، على رأسها تأمين الديمقراطية والتنمية المتوازنة في كل أرجاء الوطن كقاعدة للاستقرار السياسي والاجتماعي، مما يثبت حقيقة الحاجة الملحة لقيام الجبهة السودانية للتغيير والتي يمكن تعريفها بأنها:-
 

جبهة سودانية جعلت شعارها التغيير الذي  يصنعه وترتضيه الشعوب السودانية، وغايتها من ذلك هو الوصولإلي دولة المواطنة (الدولة المدنية الديمقراطية)، التي تفصل الدين والعرق عن الدولة وتجعل من المواطنة وحدها دون غيرها أساساً للحق والواجب. وهي ليست كياناً رافضاً للكيانات السياسية الأخرى والحركات التحررية الحاملة للسلاح، وليست بديلاً عنها، ولكنها مبادرة وطنية صادقة، يأتي إليها أبناء وبنات الشعب السوداني عن قناعة وطنية ورغبة صادقة في التغيير نحو الأفضل. فالجبهة السودانية للتغيير إذن ليست خصماً لأحد غير نظام حكم الإنقاذ، وكل عمل معارض يتكامل ويصب في وعاء الجبهة السودانية للتغيير. وليكن الهدف هو إسقاط النظام وليس التعايش والتحاور معه. وليكن الهدف هو إزالة النظام وليس الإبقاء علي النظام مع التحسين. وفوق هذا وذاك فليكن الهدف السامي هو إعادة تشكيل الدولة السودانية بمساهمة ورضاء كل شعوبها لبناء التعايش السلمي المستدام. إن مطالبة النظام بتعديل بعض التشريعات هو في المبنى والمعنى المطالبة بإنقاذ محسنة تريد أن تشرك الجميع في فشلها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي توج بانفصال الجنوب.

 

تري الجبهة السودانية للتغيير أن الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية كبيرة وعميقة، تحتاج منا جميعاً اتخاذ خطوة وطنية صادقة وإرادة سياسية لا تعرف اللين والمهادنة لتصحيح أخطاء الماضي، باستحضار المكونات التاريخية لشعوب السودان، والتعامل مع الحراك الوطني في كل جوانبه السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وذلك لسبر غور الأزمة التي تحتاج إلى إرادة الشعوب في السودان الحالي بمختلف مكوناتها الفئوية، التي تنحو منحىً إنسانياً خالصاً يعني بقضايا الاستقرار الاجتماعي والسياسي والتنمية الإنسانية والبشرية المستدامة، وكذا قضايا السلام والديمقراطية والحرية والتقدم للحاق بركب الأمم المتحضرة التي تجعل رفاه وتقدم الإنسان هو واجبها.
 

 للإجابة والتفاعل العملي مع هذه الأهداف السامية، لابد أولاً من الإحساس التام بعظمة المسؤولية التي تقع علي عاتق الجميع دون إقصاء لأحد. لذلك ومن أجل الإيمان بمبدأ الفكر المستنير، قامت الجبهة السودانية للتغيير بتنظيم مؤتمر فكري في شهر إبريل 2013م، في القاهرة، جمع كوكبة من أبناء وبنات البلد الوطنيين من مختلف الإنتماءات الفكرية، قدموا وناقشوا بحوث في شتى جوانب الحياة التي تهم المواطن أينما وجد، شملت المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية والتربوية والثقافية والصحية والزراعية ... إلخ. وبالتالي أصبحت الجبهة السودانية للتغيير سباقة في تبني برامج توحيد الرؤى السياسية والسياسات البديلة لمستقبل البلد دون تدخل خارجي، مستخدمة سلاح الفكر وتمكينا لهذا المفهوم الفكري المتقدم يقوم مشروع الجبهة السودانية للتغيير على الحداثة والتنوير لاكتساب المعرفة واشاعتها كغاية ووسيلة في آن واحد واطلاق العنان لاستغلالية العقل والتفكير والدفاع عن قضايا الحق والعدالة والدعوة إلى مفهوم جديد يقوم على الحرية والتسامح والعمل من أجل الآخرين وهذا يخالف الفهم المنغلق على نفسه الذي يقوم على التعصب والخوف ونبذ الآخر المختلف.

 

bottom of page